Spread the love
المدينة العتيقة بالمهدية – بين المنشود والموجود
المجتمع المهدوي: الخصائص البشرية، الاقتصادية و الاجتماعية
المجتمع المهدوي: الخصائص البشرية، الاقتصادية و الاجتماعية
يندرج الاهتمام بالجانب الاجتماعي في إطار البحث في علاقة المكوّنات الاجتماعية، على اختلاف أصنافها وانتماءاتها الطّبقية والمذهبية بمجال المدينة، باعتبار أن معمار المدينة يشكل استجابة لمستويات التّفاعل بين المجال الجغرافي بمختلف مكوّناته الطّبيعية وخصائصه المعمارية الموروثة وما حملته العناصر الوافدة على المدينة من اتجاهات دينية، مذهبية، عسكرية واقتصادية.
شهدت مدينة المهدية خلال الفترة الحديثة تحوّلات عميقة من ثغر ساحلي محصٌن ذو صبغة عسكرية إلى مركز تركي منفتح على ظهيره الزراعي وهو ما ساهم في تجديد غابات الزياتين بجهة المهدية مما أثّر بشكل مباشر على الدّيناميكية العمرانية التي اصطبغت خصائصها بما حمله الأتراك من تأثيرات معمارية وفنّية طبعت مورفولوجية المدينة ومعالمها بشكل عام.
الخصائص البشرية :
ضمّت مدينة المهدية سنة 1860م حوالي 4000 نسمة،[1] مما جعلها تحتلّ مكانة ثانوية من حيث أهميّة عدد السّكان في منطقة الساحل ويتميّز فضاء المدينة عموما باحتضانه لفئات عرقية ودينية مختلفة يمكن تقسيمها إلى عناصر محلّية وأخرى وافدة، وقد ساهم في زيادة هذا التنّوع انفتاح المجتمع المهدوي على الجاليات الأوروبية الوافدة وفتحه الأبواب أمامها في مرحلة شهد فيها التغلغل الأوروبي في منطقة الساحل نموٌا مطٌردا خاصة خلال النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر.
على المستوى العرقي يقسّم مراد رقية عناصر المجتمع إلى خمسة أصناف:
1- الأتراك العثمانيون:
يعود حضور هذه العناصر إلى بداية مرحلة الصّراع الاسباني العثماني على المراكز الإستراتيجية بالحوض الغربي للبحر المتوسط، وقد استقر الأتراك بالمدينة عبر موجات متتابعة بدءا بعناصر الجيش الانكشاري التي استقرت ببرج المدينة مع بدايات القرن السّابع عشر ووصولا إلى عدد من المجموعات التي استقرت بشكل تدريجي حيث يمكن اعتبار عائلات حمزة، سنان، بوشناق، البندالي وغيرها أبرز العائلات التركية المتفرعة أساسا عن عناصر الحامية العسكرية خلال القرن التاسع عشر وقد شكلت هذه العناصر نسبة 41 % من عدد سكان المهدية سنة 1865م.[2]
تتوزع هذه الفئة على مختلف شرائح المجتمع المهدوي وإن كانت معروفة خاصة بدورها العسكري والإداري إلا أنّنا نجدهم أيضا ضمن طبقات المثقفين وأرباب الصنائع كالنّسيج وحتى ضمن الصنايعية وصولا إلى القهواجي والحمٌال.[3]
2- العناصر العربية:
يشير مراد رقية إلى أن حضور العناصر العربية تؤكّده كل المصادر وهو أمر طبيعي خاصة إذا ما اعتبرنا أن المدينة كانت فضاء لعاصمة الخلافة الفاطمية ثم الزّيريّة. على أن العناصر المكوّنة لهذه الفئة يمكن تقسيمها بدورها حسب مميّزاتها وانتماءاتها الاجتماعية و الدّينية والعسكرية حيث تتكون هذه الفئة من مجموعات : البلدية، الزواولة، جماعة الزوي، العمامرة و البراينية :
– البلدية:
تضمّ هذه الفئة عادة السّكّان الحضٌر الّذين يمكن اعتبارهم من أقدم العناصر المكوّنة للمجتمع المهدوي، على المستوى العددي يمثل البلدية 18 % من عدد السّكان سنة 1867-1868م[4]
– الزواولة:
برجوعه إلى الرواية الشفوية يجد مراد رقية أن هذه الفئة تعود في أصولها إلى عائلة الزوالي القادمة من القيروان، وممّا يؤكد هذه النظرية وجود زاوية الزواولة في قلب المجال السّكني الذي يغطّي القسم الشّرقي من المدينة وقد أحدث داخلها مقام لسيدي سالم القديدي.
– العمامرة :
تنسب هذه المجموعة حسب المرجع السّابق إلى عائلة العمٌاري وتؤكد الرواية الشفويّة أن أصولها تعود إلى الساقية الحمراء بالمغرب الأقصى، أنشأت هذه العائلة زاوية خاصة بها في القسم الشرقي من المدينة.
– جماعة الزوي:
ينسب إلى هذه الفئة أتباع الزوايا والطّرق الصوفية المنتشرة بكثرة داخل فضاء المدينة وهم يمثلون 12 % من مجموع السكان سنة 1867-1868م.
– البراينية:
يشمل هذا الصنف مجموع الوافدين على المدينة والناشطين بها من غير سكانها الأصليين والذين بلغ عددهم من مجموع السكان حسب دفتر أرشيفي يعود إلى سنة 1855-1856م (17.7 %)، يمكن تقسيم الوافدين على المدينة بالرجوع إلى مواطنهم الأصلية وهم يشكلون أربعة أصناف:
الطرابلسية: تضم هذه الفئة عددا من العائلات المحدودة أهمها « عائلة واجه » التي أحدثت مسجدا خاصا داخل الفضاء السكني حمل تسمية « جامع واجه ».
الجرابة: يمثلون حسب مراد رقية أهم العناصر الوافدة على المدينة ومن أبرز العائلات الجربية بالمهدية: صولة، منصٌر، الحاج سعيد، أحمد بن فقيه…حيث قامت هذه الأخيرة ببناء مسجد بموازاة الفضاء التجاري « جامع أولاد الفقيه ».
طياش صفاقس: تضم عددا من العائلات الصفاقسية التي استقرت داخل المدينة ومنها عائلة « كمٌون » إضافة إلى عائلات قرقنية مثل »التومي » و »القرقني »
المجموعة الرابعة تنحدر أساسا من جهة الجنوب الشرقي وخاصة من منطقة قابس.[5]
3- الأوروبيين:
تركزت الجالية الأوروبية بالمدينة مع بدايات القرن التاسع عشر وقد تنامي عددهم خاصة مع تزايد أشكال المبادلات التجارية مع الأوروبيين في قطاع الزّيوت بصفة خاصّة وقد أدّى تزايد هذه الجالية إلى إحداث كنيسة في قلب المجال التجاري سنة 1848م.
4- معاتيق العبيد:
تنحدر أغلبية العبيد من جهة الجنوب وقد تم عتقهم جميعا حسب وثيقة أرشيف تعود إلى سنة 1865- 1866، تمثل هذه الفئة نسبة 6 % من سكان المدينة في أواسط القرن التاسع عشر.[6]
5- اليهود:
يمثل اليهود نسبة 3 % من عدد سكان المدينة وقد كان لهم دورا هاما خاصة من خلال بروزهم كوسيط بين المسلمين والأوروبيين وقد تزايد نشاطهم مع تدعم حركة التغلغل الاقتصادي الأوروبي بالمدينة.[7]
المجتمع المهدوي من الفسيفساء البشرية إلى سيطرة العناصر التركية:
1- مجتمع متعدّد الأجناس:
يؤكّد مراد رقيّة من خلال دراسته لخصائص المجتمع المهدوي خلال القرن التّاسع عشر أنه مثٌل » فسيفساء بشريّة وحضارية تميّزه عن أمثاله من المجتمعات الحضرية بتنوّع مكوّناته العرقية والدّينية فاعتبر بذلك مجتمعا مثاليا لغياب مظاهر التوتّر العرقي والدّيني والحضاري. فقد تدعّمت العناصر الأصلية الممثلة في الزواولة و البلدية و العمامرة وجماعة الزوي بفرق وافدة مثل المنتسبين للعالم العثماني والطرابلسيين والجرابة والقراقنة والصفاقسية والمنستيريين والقابسيين ممّا ساعد على إثرائه دون الإضرار بانسجامه وتماسكه. » [8]
غير أن هذه الفسيفساء لا يمكن أن تخفي في كلّ الأحوال حالة عدم التكافىء في المستوى الوزن السياسي والاقتصادي والديمغرافي لكل فئة ومن البديهي القول هنا أن الخصائص الحضارية العامّة التي تميّز المجتمع ترتبط خاصّة بالطبقة المهيمنة.
2- هيمنة الفئة التركية على المجتمع المهدوي:
أعتبر فضاء شبه الجزيرة أحد أهم نقاط الصراع العثماني – الاسباني في الحوض الغربي من البحر المتوسط خلال النّصف الأوّل من القرن السادس عشر و تعود الأسباب الأساسية لهذا الصراع إلى ما يتمتع به موقع المدينة من أهمية إستراتيجية خاصة على المستوى العسكري.
ساعدت هذه الظّرفية على تركّز بعض العناصر التّركية داخل المدينة وأهمهم الإخوة بربروس، حيث يشير[9] مويارد (Mouillard (L.)) إلى سيطرة عرٌوج على المدينة سنة 1517م ثم سقوطها في يد درغوث باشا سنة 1549م، و قد تدعّم وجود هذه العناصر بعد سيطرة العثمانيين على إفريقية سنة 1574م وتحوّلها إلى ولاية عثمانية.
من ناحية أخرى شهد النّصف الأول من القرن الثامن عشر تركّز عدد هام من العائلات التركية داخل فضاء المدينة أهمها عائلة الحمزاوات التي يشير حسن حسني عبد الوهاب [10] إلى أن أصلها يعود إلى بلاد الأناضول، كذلك نجد عائلة « الصفرٌات » (صفر) وهي من أصل ألباني، إضافة إلى جماعة أخرى من بلاد اللاٌز (على ساحل البحر الأسود) ومنهم عائلة بن رمضان ولازأوغلي وفرقة ثالثة من بلاد البشناق الذين استقروا حسب حسن حسني عبد الوهاب بقريتي الأكواش.
ساهمت هذه العائلات في دعم الحضور التّركي بالمدينة حيث وصلت نسبتها إلى 41% من عدد السّكان في أواسط القرن التاسع عشر، وقد ساهم هذا التركّز الديمغرافي في بسط سيطرة هذه العناصر على المجتمع المهدوي في مجالات متباينة أهمها:
أ- المستوى الاقتصادي:
تشير دلندة الأرقش إلى أن الملكية الخاصة للزياتين تعود بنسبة52،2 % منها إلى الفئة الحنفية، كما أنها تسيطر على 85 % من جملة المعاصر خلال القرن التاسع عشر.[11]
ب- المستوى الإداري و العسكري:
ترتبط سيطرة الأتراك على المجالين الإداري والعسكري بالظرفية التاريخية للوجود التركي بالمدينة، وقد تجسد خاصة من خلال تركيز مؤسسات عسكرية و إدارية تعتمد على العنصر التركي أساسا.
كل هذه العوامل جعلت من الفئة الحنفية مركز استقطاب اجتماعي، اقتصادي، سياسي و عسكري حسب تعبير دلندة الأرقش[12] وهي نتيجة طبيعية لتحكم هذه الفئة في مفاصل الحياة الاقتصادية إضافة إلى لعبها دور الوسيط بين السلطة المركزية و المجتمع الحضري.
وعلى الرغم من تعدد أصول الفئة الحنفية إلا أنها احتفظت بالمقابل « بقواسم مشتركة ذات صبغة اجتماعية ومعنوية ودينية أهلتها للتأثير وبصفة متميزة على الأصعدة السياسية والعسكرية والحضارية « [13].
ما يهمنا في هذا كله في مستوى علاقته بإشكاليات البحث هو قياس درجات التفاعل بين مجموعة من العوامل وهي فضاء المدينة العمراني الموروث ومخزونه من مواد البناء المتوفرة وما حملته العناصر الجديدة الفاعلة داخل المدينة من أنماط معمارية وأشكال زخرفيه مستحدثة، خاصة إذا ما اعتبرنا أن ما تحمله العمارة من خصائص شكلية وفنية تمثل بالضرورة استجابة لعوامل ثلاث وهي:
– الظرفية التاريخية
– الخصائص الطبيعية و الجغرافية للمجال
– الخلفيات الثقافية للنسيج الاجتماعي بالمدينة كما تضعنا جملة هذه الخصائص التي تميز المجتمع المهدوي أمام إشكالية تبحث في مدى تحول فضاء المدينة إلى مجال تتسرب فيه روح الفن المعماريالتركي أو بقائه وفيّا لتقاليده الموروثة أم أننا سنجد أنفسنا إزاء مستويات متفاوتة من درجات القطيعة والتواصل.
المراجع:
1 رقية (مراد)، » الجالية التركية بمدينة المهدية وموقعها من البيئة الاقتصادية و الاجتماعية من خلال دفتر الأملاك رقم 971 لسنة 1284هـ- 1867 /1868م »، ص. 219.
2 Regaya (M), « Groupes ethniques et formations sociales, religieuses et militaires à Mahdia dans la deuxième 22 moitié du XIXème siècle « , in Cahiers de Tunisie Tome XLV n° 159-160, 1er-2ème trimestres 1992, p. 176.
3 Ibidem, p. 176
4 لأرشيف الوطني، موجز الدفاتر، دفتر المجبى عدد 971، مجابي أهل المهدية.
5 Regaya (M.), « Groupes ethniques et formations… », loc.cit, pp. 182-183.
6 Ibidem, p. 1786
الأرشيف الوطني ، موجز الدفاتر، دفتر المجبى عدد 971، مجابي أهل المهدية. 7 Ibidem, p.177. Regaya (M.), « Groupes ethniques et formations… », loc.cit, p. 171 8
9 Mouillard (L.) : Etablissement des Turcs en Afrique et en Tunisie. Tunis. 1895. pp. 6 – 11
10 عبد الوهاب (حسن حسني)، ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية، القسم الثالث، مكتبة المنار تونس، 1972، ص ص. 355-378.
11 الأرقش (دلندة) « التطور اللامتكافئ والهيمنة الخارجية : الفئة الحنفية و مكانتها في المهدية و والمنستير في القرن التاسع عشر » المجلة التاريخية المغربية، السنة الرابعة عشر، العدد 45-46، جوان 1987، تونس ص ص. 5- 11.
المدينة العتيقة بالمهدية