تاريخ الــــزّوايـــا الصّوفيّة بمدينة المهديّة
تاريخ الــــزّوايـــا الصّوفيّة بمدينة المهديّة
أ- أهميتها وتطوّرها التاريخي
حول البدايات التّاريخية للتصّوف وتطور سلوك المتصوّفة بإفريقية، يؤكد محمد حسن أن التمظهرات الأولى لهذا التيّار برزت منذ العهد الزّيري و » ظلّت هذه الجذور حيّة في العهد الحفصي وقد ساعدت الرّباطات المنشأة سابقا على طول السّواحل على سرعة تقبّل هذه الحركة، وما أن جاء القرن الثّالث عشر حتى انتشر التصوّف بإفريقية وبرز خاصّة مع أبي مدين شعيب بن الحسين وهو إشبيلي الأصل تفرّغ للعلم والتّزهّد حتّى تاريخ وفاته بتلمسان سنة 594 هجري (1198م)، وقد برزت بعده مجموعة من الأسماء أهمها أبو الحسن الشاذلي وأبو سعيد خلف التّميمي الباجي وعلي الحطّاب بمدينة تونس وأبو علي النّفطي بالجريد وأبو يوسف يعقوب الدّهماني بالقيروان والطّاهر المزوغي بقصور الساف. » [1]
وقد عملت النّهضة الاقتصادية النّسبية التي شهدتها إفريقية في فترة لاحقة ولا سيّما خلال القرن الثّالث عشر على الاستنجاد بالنّفوذ الذي أصبح يتمتّع به شيوخ المتصوّفة، وذلك قصد حمايتهم من تعدّيات القبائل ومن هجمات القراصنة الأوروبيين، وهكذا « فقد اقترنت أهمية الزّاوية الساحلية بالموقع الاستراتيجي الذي تملكه وبازدياد خطر الهجمات البحريّة حتى أن هؤلاء المشائخ تحولوا في كثير من الأحيان إلى محاربين أو مرابطين في الثغور الساحلية. »[2]
إجمالا يمكن القول بأنّ تعاظم الدّور الذي لعبته الزّاوية يعود في قسم كبير منه إلى أن هذه المؤسّسة الناشئة قد ورثت مجالا جغرافيا كانت تسيطر عليه الأربطة البحرية وهو ما جعل محمد حسن يتحدّث عن ظاهرة انحدار بطيء على المستوى الوظيفي تحوّلت بموجبه أغلب وظائف الرّباطات إلى الزّوايا.
يرتبط تزايد أهمية الزّاوية بشكل عام بالدّور الذي تلعبه، وهو ينمو بالتّوازي مع ضعف السّلطة المركزية الذي يمثل ظرفية ملائمة تتحوّل فيها الزّاوية بما تملكه من أتباع وفرسان إلى مؤسّسة دينية عسكرية تعمل على حماية سكّان السّواحل، وقد مثلت مدينة المهدية وناحيتها أحد أهمّ المراكز بإفريقية التي شهدت ظهور وتركز شبكة هامة من الزوايا لعلّ من أبرزها محمد بن جابر وأبو محمّد عبد العزيز المهدوي بالمهدية والطّاهر المزوغي بقصور السّاف، وقد اكتسبت هذه الزّوايا أهمّية خاصّة خلال القرن التّاسع هجري (15م) وارتبط ذلك بظرفية تلاشت فيها تقريبا أغلب مؤسسات الدّولة الحفصية وشهدت تتالي الحملات الأوروبية على أغلب المدن السّاحلية وهو ما جعل عددا من الزّوايا يحمل لواء المقاومة والجهاد ضد الأسبان والبرتغاليين على وجه الخصوص، وقد ساهم ذلك في توسيع نفوذها واستقطاب عدد هام من الأتباع والفرسان.
ارتبط تاريخ مدينة المهدية خلال الفترة الحديثة بتتالي الحملات الأوروبية من بلدان الضّفّة الشّمالية لحوض البحر الأبيض المتوسّط، وقد لعب عدد من الرّموز الدّينية دورا هاما في الدّفاع عن المدينة ممّا أدّى إلى إنشاء مجموعة من الزّوايا المرتبطة بهذه الشّخصيات، ويعتبر ذلك أحد أشكال التّكريم ومحاولة ضمان نشر القيم التي نادت بها تلك الرّموز.
تطوّرت الظّاهرة في الفترة العثمانية لنشهد في مرحلة أولى عملية توسعة للزّوايا شملت إحداث مساجد صغيرة داخلها مما جعلها تتحوّل من مقامات تذكارية بسيطة إلى مركبات دينية جنائزية متعدّدة الأقسام والوظائف. خلال القرن التّاسع عشر تنامت الحركة الصّوفية وشهدت وجود تيّار جديد يرتبط خاصّة بشخصيات مؤسسين مشهورين على مستوى العالم الإسلامي يتمتّعون برصيد معنوي وديني هام وقد فرض ذلك بروز تطوّر وظيفي و شكلي داخل مؤسسة الزّاوية من خلال تحوّلها إلى ظاهرة طرقية تطلّبت وجود مركّبات معماريّة متعدّدة المرافق تكون قادرة على إسكان الزّوار وإقامة الحلقات الصّوفية وإعداد الولائم.
– تصنيــــــف الزوايـــــــــــــا حســب خصائصهـــا المعماريـــة و الوظيفيــــــة:
– الزوايا المنسوبة إلى أشخاص:
يكاد يقتصر هذا الصّنف من الزّوايا على الشّخصيات الجهادية التي قاومت الهجمات الخارجية على المدينة و خاصة تلك التي قادها الأسبان و هي بذلك تنزع إلى أن تكون الأقدم في المدينة على الرّغم من أن بناء الزّاوية يكون عادة لاحقا على وفاة الشّخصيات المجاهدة، حيث يكون الضّريح في هذا الصّنف سابقا عن المعلم و دافعا لإنشائه، على المستوى المعماري يمكن أن نميّز بين نموذجين يجسّمان هذا الصّنف من الزّوايا:
* النّموذج الأول:
الزاوية المقام:
يتجسّم هذا الصّنف عادة من خلال إنشاء قاعدة مربّعة عادة ما يتوسّطها الضّريح وترتفع فوق جدرانها قبّة تختلف حسب المعلم من حيث الحجم والشّكل.
ويترجم هذا الشّكل مبدأ الانتقال من عالم الأرض إلى عالم السماء وهي خاصّية معمارية يراد بها تكريم شخصية الولي وتكون في أغلبها أعلام محليّة، ضمن هذا الصّنف من الزّوايا نجد مقام سيدي جابر وبيت سيدي الصّنوبري.
* النموذج الثاني:
زاوية و بيت صلاة:
تشتمل على بيت الضريح وإلى جانبه بيت صلاة محدودة الأبعاد وميضأة أي أننا أصبحنا أمام مركبات دينية جنائزية ترتبط بأسماء شخصيات جهادية وأهمها سيدي المفضّل، سيدي الظهّار وسيدي قاسم.
– الزوايا المنسوبة إلى فروع اجتماعية محلية:
ظهر هذا الصّنف خاصّة خلال النّصف الأول من القرن التّاسع عشر ويختلف عن سابقه على مستوى الخصائص الوظيفية والشّكل المعماري إذ يوحي هذا الأخير أنه كان للزّاوية دور تعليمي واجتماعي على اعتبار أنّها كانت تحتوي على مجموعة من البيوت الصّغيرة المعدّة لإقامة الزّائرين من طلاب العلم أو من الغرباء عن المدينة إضافة إلى بيت صلاة، ضمن هذا الصّنف يمكن إدراج زاوية العمامرة التي بُنيت في منتصف القرن التّاسع عشر وكذلك زاوية الحاج عياد الزوالي المعروفة باسم زاوية الزّواولة.
– الزوايا الطرقية، زوايا على نمط دار:
اتخذت الزوايا المنتشرة بالمدينة خلال النّصف الثاني من القرن التّاسع عشر شكل ظاهرة طرقية تتحوّل من خلالها هذه المؤسّسة إلى مركب متعدّد المرافق و مجهّز لاستقبال وإسكان الزّوار وهذا ما أثّر على خصائصها المعمارية حيث جاء تخطيطها على شاكلة دار مُقامة من مجموعة من الغرف تفتح على صحن داخلي. تحتوي الزّاوية على بيت صلاة تقسّم بدورها بواسطة قوسين إلى ثلاث بلاطات (سيدي عبد السلام ) أو بواسطة أساطين إلى مربّعات متقايسة ( زاوية سيدي بن عيسى) وقد لعبت الطرق الصّوفية دورا كبيرا في دفع ظاهرة تشييد الزّوايا وانتشارها، كما تمكّنت هذه المؤسّسات من جلب عدد هامّ من الأتباع من الفقراء والمهمّشين خاصة بعد تحوّلها إلى مؤسسة ذات نفوذ إقتصادي وإجتماعي وذلك بفضل عدد هام من المداخيل المختلفة التي يبقى نظام الحبس أحد أهمّ مرتكزاتها القانونية التي تضمن عملية تمويل هذه الطّرق حيث لاحظنا وجود أصناف متباينة من العقارات المحبّسة عليها لعلّ أهمّها الأشجار المثمرة، الأراضي الزّراعية ومساقي المياه، هذا إضافة إلى رؤوس الأموال المتأتية من الزّيارات. من ناحية أخرى يمكننا القول بأنّ المكانة التي أصبحت عليها الطّرق الصّوفية ترجع في قسم منها إلى الإعانات التي سنّتها الدولة الحسينيّة نفسها وذلك في محاولة لاحتواء بعضها،[3] وبصورة إجمالية يمكن أن نقسّم هذه الطّرق إلى أربعة فروع وهي:
– الطّريقة القادرية: يصنّفها التّليلي العجيلي ضمن الطّرق الأصلية التي تفرّعت عنها طرق جديدة وهي ترتبط في مستوى تسميتها بمؤسسها الأوّل عبد القادر الجيلاني الذي وُلد بالعراق سنة 1097هجري أين درس الفقه والحديث ثمّ تصدّر للتّدريس والإفتاء بها. « وقد ظلّت هذه الطّريقة بدون زاوية في الإيالة التّونسية حتّى ظهور الشّيخ محمّد الإمام المنزلي الذي أتمّ أوّل زاوية لها بمنزل بوزلفة بمعونة حمّودة باشا الحسيني الّذي أعتبر من أوائل أتباعها وقد انتشرت بعد ذلك بشكل سريع بكامل الإيالة التونسية ».[4]
– الطريقة التّيجانية: وقعت نسبة هذه الطّريقة إلى مؤسّسها الأوّل الشيخ أحمد التّيجاني الذي ولد في 1737-1738م وتوفّي في 1814م، وقد عمل على نشر طريقته من خلال التّنقل في الصّحراء وصولا إلى مدينة فاس أين التقى به الشيخ إبراهيم الرياحي أثناء سفره إلى المغرب سنة 1803-1804 فتأثّر به وأعتبر أوّل من تبنّى الطريقة التّيجانية وعمل على نشرها بحاضرة تونس في مرحلة أولى لتعمّ بعد ذلك أهمّ أنحاء الإيالة وخاصة منطقتي الوسط والجنوب.[5]
– الطّريقة العيساوية: وذلك نسبة إلى الشيخ محمد بن عيسى وهو أصيل مكناس وقد توفي بالمغرب الأقصى سنة 1527، شهدت هذه الطريقة انتشارا واسعا خلال النّصف الثّاني من القرن التاسع عشر بكامل الايالة التّونسية وخاصّة في منطقة الساحل.
– السلامية: نسبة إلى سيدي عبد السّلام الملقّب بالأسمر وهو من أصل طرابلسي، اكتسبت هذه الزاوية أهميّة خاصة خلال النّصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث استطاعت أن تجمع حولها عددا هاما من الفقراء والمريدين.
المراجع
[1] حسن (محمد)، المدينة والبادية …، سبق ذكره، الجزء الثاني، ص.743.
[2] المرجع نفسه، ص. 743.
[3] العجيلي (التليلي)، الطرق الصوفية…، سبق ذكره، ص. 60.
[4] المرجع نفسه، ص ص. 39- 40.
[5 » ولد إبراهيم الرياحي بتستور سنة 1756م وإنتقل إلى الحاضرة للتعلّم كانت زاويته قرب حوانت عاشور أوّل زاوية للطريقة بالبلاد، توفي في 1850. » ، المرجع نفسه، ص. 43.
:
ا [.